الفكرالإسلامي

 

 

أهمية إجماع الصحابة ومكانته(1)

(1/2)

 

بقلم: الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

 

 

 

 

عناصر البحث

الإجماع لغةً واصطلاحاً، الصحابي لغةً واصطلاحاً، أهم عوامل اتفاق الصحابة في الرأي، الأدوار التي مر بها الإجماع، حجية إجماع الصحابة، هل يختص الإجماع بعصر الصحابة؟ إجماع الصحابة مع خلاف معاصريهم من التابعين، أقسام الإجماع ودرجاته، أمثلة على إجماعات الصحابة.

الإجماع لغة:

     1- العزم يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ﴾ [يونس/71] أي اعزموا عليه. وقوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له»(1) أي لم يعزم.

     2- الاتفاق أيضاً ومنه قولهم: أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه.

الفرق بين المعنيين:

     يتصورالإجماع بالمعنى الأول من واحدٍ لا بالمعنى الثاني(2).

     قيل: والثاني بالمعنى الاصطلاحي أنسب(3).

     وذكر الغزالي أنه مشترك لفظي(4).

اصطلاحاً:

     تعددت عبارات العلماء في تعريف الإجماع اصطلاحاً، وذكر العلاء البخاري عدة تعريفات ثم قال: وقيل - وهو الأصح: إنه عبارة عن اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر من الأمور.

     فأريدبالاتفاق الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل.

محترزات التعريف:

     واحترز بلفظ «المجتهدين» - معرفا باللام المستغرقة للجميع - عن اتفاق غيرهم كالعامة، واتفاق بعضهم. وبقوله: «من هذه الأمة» عن المجتهدين من أرباب الشرائع السالفة. وبقوله: «في عصر» عن إيهام أن الإجماع لايتم إلا باتفاق مجتهدي جميع الأعصارإلى يوم القيامة لتناول لفظ المجتهدين جميعهم.

     وإنما قيل: «على أمر من الأمور» ليكون متناولا للقول والفعل و الإثبات والنفي والأحكام العقلية والشرعية(5).

الصحابي لغة:

     بالفتح منسوب إلى الصّحابة وهي مصدر بمعنى الصّحبة، وقد جاءت الصحابة بمعنى الأصحاب، والأصحاب جمع صاحب، فإنّ الفاعل يجمع على أفعال كما صرّح به سيبويه وارتضاه الزمخشري والرّضي(6).

اصطلاحاً:

     قال ابن حجر رحمه الله: «من لقي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة في الأصح.

شرح التعريف:

     المراد باللقاءما هو أعم من المجالسة والمماشاة و وصول أحدهما إلى الآخر، وإن لم يكالمه، وتدخل فيه رؤية أحدهما الآخر، سواء كان ذلك بنفسه أوبغيره.

     والتعبير بـ «اللقي» أولى من قول بعضهم: الصحابي من رأى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم ونحوه من العميان، وهم صحابة بلا تردد، واللقي في هذا التعريف كالجنس.

     وقوله: «مؤمنا؛ كالفصل، يخرج من حصل له اللقاء المذكور، لكن في حال كونه كافراً.

     وقوله: «به» فصلٌ ثانٍ يخرج من لقيه مؤمناً لكن بغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

     وقوله: «ومات على الإسلام»؛ فصل ثالث يخرج من ارتد بعدأن لقيه مؤمناً به، ومات على الردة؛ كعبيد الله بن جحش و ابن خطل.

     وقوله: «ولو تخللت ردة»؛ أي: بين لقيه له مؤمناً به وبين موته على الإسلام؛ فإن اسم الصحبة باقٍ له، سواء أ رَجَعَ إلى الإسلام في حياته صلى الله عليه وآله وسلم أوبعده، وسواء أ لقيه ثانياً أم لا!

     وقوله: «في الأصح»؛ إشارة إلى الخلاف في المسألة(7).

     هذا التعريف عند المحدثين، وأما عند الأصولين فقال «أميربادشاه»: عند جمهور الأصوليين: من طالت صحبته متتبعًا مدة يثبت معها إطلاق (صاحب فلان) عليه (عرفاً بلا تحديد) لمقدارها (في الأصح)(8).

أهم عوامل اتفاق الصحابة في الرأي

     يتلخص أهم عوامل اتقاق الصحابة في الرأي مايلي:

     1- اجتماع الصحابة في المدينة المنورة حول خلفاء هذا العهد يَسَّر اتفاق وجهات النظربين الصحابة في كل ما يجد ويحدث.

     2- قلة الوقائع الجديدة بحيث لازال انشغال الصحابة بالحفظ للنصوص وفهم ما صدرمن أحكام في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يتسع الأمر لافتراض وقائع جديدة لم تقع بعد للخوف من إدخال جديد لم يحدث من قبل(9).

الأدوارالتي مر بها الإجماع:

     لقد مر الإجماع في حياته بأدوار لخصها بعض الباحثين فيما يلي:

     1- دور عصر الصحابة: ويعتبر أهم الأدوار التي مر بها الإجماع حيث شهد هذا الدور ولادةَ الإجماع ونشوءه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون إذا حزبهم أمر جمعوا رؤوس الصحابة واستشاروهم في كل مايستجد من أمر، وما يطرأ من معضلة، ودرسوا معهم الأمر دراسةً يصدرون في أفعالهم عنها فممن فعل ذلك أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - فقد جمعهم عند جمع القرآن وعند حرب المرتدين وفي الأراضي المفتوحة في الشام والعراق، وبهذه السنة التي سنها كثر إجماع الصحابة في كثير من المسائل، وكذلك فعل عمر في عدة أمورمنها: وقوع الطاعون في الشام وعند انتخاب الخليفة بعده عندما طُعن وغيرها.

     2- دورعصر التابعين: و في هذا الدور بدأت فكرة الإجماع تنكمش، وتنحصر؛ لأن العلماء والفقهاء والمحدثين توزعوا في كثير من الأمصار الإسلامية كالشام والعراق ومصر وخراسان وغيرها بالإضافة إلى عدم الاهتمام الكافي من الحكام على جمع آراء الفقهاء على رأي واحد.

     3- عصرجمع الإجماع (الاجتهاد): وهذا الدور شهد بداية جمع الإجماع فاهتم الإمام مالك - رحمه الله - بإجماع أهل المدينة و أبو حنيفة - رحمه الله - بالتزامه وحرصه على إجماع أهل الكوفة، وبهذا حرص كل إمام على أن يلتزم إجماع من سبقه وبدأت بعد ذلك تتسع دائرة الإجماع شيئاً فشيئاً حتى شملت أمصاراً إسلامية شتّى.

     4- عصر فقهاء المذاهب: في هذا الدوراستقرعند الكثير من المنتسبين للمذاهب الفقهية وعند أئمتهم حجية الإجماع ونضوجه كمصدر للتشريع الإسلامي فصارعندهم حجةً قاطعةً وصاروا ينكرون أشد الإنكارعلى من يخرج عن إجماع المجتهدين من السلف ومن يخالفهم في حكم شرعي ، وكانوا قبل ذلك كبداية يرتبط كل تلميذ من تلاميذ أئمة المذاهب الفقهية بقول إمامه ويدعمه بدعاوي من الإجماع حتى كملت دائرة الإجماع شيئاً فشيئاً، وصارلايمكن الاستغناء عنه أبداً كمصدرهام وخصوصاً في الآونة الأخيرة(10).

حجية إجماع الصحابة:

     اختلفوا فيه على قولين:

     1- إجماع الصحابة حجةٌ معلوم تصوره؛ لكون المجمعين ثمة في قلة والآن في كثرة وانتشار(11).

     قال الزركشي: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع، وهم أحق الناس بذلك(12).

     2- ونقل عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة(13).

هل يختص الإجماع بعصرالصحابة

     واختلفوا فيه على مايلي:

     1- ذهب الجمهور إلى أن الإجماع لايختص بعصرالصحابة، بل يمكن بعدههم، وهو رأي الجمهور(14).

     ويقول الإمام الجويني: «اعلم وفقك الله أن ما صارإليه الدهماء من العلماء القائلين بالإجماع: أن الإجماع لا يختص بأهل الصدرالأول؛ ولكن لو اجتمع التابعون على حكم لقامت الحجة بإجماعهم كما تقوم بإجماع الصحابة وهكذا كل عصربعدهم»(15).

     واستدل الجويني على صحة رأي الجمهور وفساد رأي الظاهرية بقوله: نقول: الإجماع لا يثبت عقلاً أصلاً وإنما الدليل عليه السمع، وكل ما دل على إجماع الصحابة فهوبعينه دالٌّ على إجماع غيرهم وكل مارام به الخصم قدحاً في إجماع بعض أهل الأعصار فذلك يتداعى إلى إجماع الصحابة(16).

     2- وذهب بعض العلماء إلى أن الحجة في إجماع الصحابة وحدهم وهورواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية، وابن حزم، وابن حبان، وداؤد الظاهري(17).

واستدل هؤلاء بمايلي:

     1- بأن الإجماع إنما صارحجة بصفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و الصحابة هم الأصول في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ لأنهم كانوا هم المخاطبين بقوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ ٱللهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ [آل عمران/110] وبقوله: ﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة/143] دون غيرهم؛إذ الخطاب يتناول الموجود دون المعدوم وكذا قوله تعالى ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء/115] وقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» خاص بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام؛ إذ هم كل المؤمنين وكل الأمة؛ لأن من لم يوجد بعدلا يكون موصوفاً بالإيمان فلا يكون من الأمة.

     2- ولأنه لابد في الإجماع من اتفاق الكل، والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم، وذلك لاينافي إلا في الجمع المحصوركما في زمان الصحابة أما في سائر الأزمنة فيستحيل معرفة اتفاق جميع المؤمنين على شيء مع كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها.

     3- ولأن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعاً عليها يسوغ فيها الاجتهاد، فالمسألة التي لا تكون مجمعاً عليها بين الصحابة تكون محلاً للاجتهاد بإجماعهم، فلو اعتبر إجماع غيرهم لخرجت عن أن تكون محلا للاجتهاد. وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين(18).

الرد عليه:

     والرد عليه أنه يلزم منه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجوداً عند ورود تلك النصوص؛ لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت ورودها، وقد أجمعنا على صحة إجماع من يبقى من الصحابة بعد الرسول عليه السلام وبعد من مات بعده من الصحابة. وليس ذلك إلا لأن الماضي غير معتبركما أن الآتي غير منتظر.

     ورد ابن حزم على هذا بقوله: قال بعض أصحابنا: لا، ولكن نقول: إن كل من مات منهم رضي الله عنهم، فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حياً لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسو الله صلى الله عليه وسلم؛لأنه لم يمت إلا مؤمناً بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك، وليس كذلك من بعدهم، لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه وسلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة(19).

     وأما قول ابن حزم ومن وافقه: إن العلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل فقال البخاري رداً عليه: هذا فاسد أيضًا؛ لأن حاصله يرجع إلى تعذرحصول الإجماع في غير زمان الصحابة، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنه لوحصل كان حجة وكذا شبهتهم الثالثة فاسدة أيضًا؛ لأنه لوصح ما قالوا: لزم امتناع إجماع الصحابة على المسائل الاجتهادية بعين ما ذكروا، وهو باطل لإجماعهم على كثير من المسائل الاجتهادية، ولئن سلمنا إجماعهم على تجويز الاجتهاد فهو مشروط بعدم الإجماع وحينئذ لا يلزم التعارض؛ لأن الإجماع إذا وجدعلى حكم المسألة زال شرط الإجماع على التجويز فيزول بزوال شرطه»(20).

     وقال الزركشي: وهو - أي أن الحجة في إجماع الصحابة فقط - ظاهر كلام ابن حبان البستي منافي صحيحه، وقيل: إن أحمد علق القول به في رواية أبي داود، فقال: الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة و هو بعد في التابعين مخير؛ لكنه في الرواية الأخرى سوى بين الكل. فمن أصحابه من أجرى له قولين ومنهم من قطع بالثاني، وحمل الأول على آحاد التابعين، لا إجماعهم. وأما قول أبي حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيءسلمناه، و إذا أجمع التابعون زاحمناهم، فليس ذلك موافقاً لداود؛ لأنه رأى نفسه من التابعين، فقدرأى أنسارضي الله عنه. و قيل: أدرك أربعة منهم(21).

إجماع الصحابة مع خلاف معاصريهم من التابعين:

     اختلفوا في التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أم لا على أقوال:

     القول الأول: لا ينعقد إجماعهم مع مخالفته، ثم اختلف هؤلاء.

     فمن لم يشترط انقراض العصر، قال: إن كان من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة، فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة، لايعتد بخلافه. وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي و أكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة، ومذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.

     ومن شرط انقراض العصر، قال: لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته، سواء كان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم، أو صارمجتهدًا بعد إجماعهم، لكن في عصرهم(22).

أدلة هذا القول:

     وقد استدل الجمهور:

     أ- بأن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطإ. وهذا الاسم لا يصدق عليهم مع خروج التابعين المجتهدين عنهم؛ فإنه لا يقال إجماع جميع الأمة، بل إجماع بعضهم فلا يكون حجة(23).

     ب- وبقولهم: بأن الصحابة سوغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم، كسعيد بن المسيب وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم، حتى إن عمر وعلياً وَلَّيَا شريحاً القضاءَ ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه، وحَكَمَ على علي رضي الله عنه في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي علي رضي الله عنه، ولم ينكر عليه. وروي عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة، فقال: اسألوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها مني. وسئل الحسين بن علي - كرم الله وجهه - عن مسألة، فقال: اسألوا الحسن البصري. وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما- عن نذر ذبح الولد، فقال: اسألوا مسروقاً. فلما أتاه السائل بجوابه اتبعه. . . . إلى غير ذلك من الوقائع. ولو كان قول التابعي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع إليه(24).

     القول الثاني: وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً، وهو مذهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في رواية(25).

أدلة هذا القول:

     احتج أصحاب هذا القول: بالنص والمعقول والآثار:

     أما النص: فقوله عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»(26) وقوله: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»(27)، وقوله: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»(28).

     وأما المعقول، فهو أن الصحابة لهم مزية الصحبة وشهادة التنزيل وسماع التأويل، وأنهم مرضي عنهم على ما قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ ٱللهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18] وقد قال النبي في حقهم: «لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبًا لما بلغ مد أحدهم»(29). وذلك يدل على أن الحق معهم لا مع مخالفهم.

     وأما الآثار، فمنها: أن عليًا رضي الله عنه نقض على شريح حكمه في ابني عم أحدهما أخ لأم، لما جعل المال كله للأخ(30).

والجواب عن أدلتهم:

     أما عن النصوص: فأجاب الرازي عن الآية بأنها مختصة بأهل بيعة الرضوان بالاتفاق ولا اختصاص لهم بالإجماع(31).

     وقال الآمدي: إن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجةً لاتفرق بين أهل عصر وعصر. وقوله عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» لا يدل على عدم الاهتداءبغيرهم إلا بطريق مفهوم اللقب، والمفهوم ليس بحجة فضلاً عن مفهوم اللقب(32).

     وعن المعقول - هو قولهم: إن الصحابة لهم مزية الصحبة والفضيلة والدرجة الرفيعة -: بأنه لو كان ذلك مما يوجب اختصاص الإجماع بهم لما اعتبر قول الأنصارمع المهاجرين، ولا قول المهاجرين مع قول العشرة، ولا قول باقي العشرة مع قول الخلفاء الأربعة، ولا قول عثمان وعلي مع قول أبي بكر وعمر، ولا قول غير الأهل مع الأهل، ولا قول غير الزوجات، مع الزوجات لوقوع التفاوت والتفاضل. ولم يقل به قائل(33).

     وعن الآثار، أما نقض علي على شريح حكمه، فليس لأن قوله غير معتبر. ولهذا فإنه لماحكم عليه في مخاصمته بخلاف رأيه لم ينكر عليه، وإنما نقض حكمه، بمعنى أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض، كما يقال: نقض فلان كتاب فلان و كلامه إذا اعترض عليه. ويحتمل أنه نقضه بنص اطلع عليه أوجب نقض حكمه(34).

     القول الثالث: واختارالآمدي أنه إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماع الصحابة لا ينعقد إجماعهم دون موافقته(35).

     وهو الذي مال إليه القاضي عبد الوهاب من المالكية حيث قال: الحق التفصيل وهو أن الواقعة إن حدثت للصحابة بعد أن صار التابعي من أهل الاجتهاد، كان كأحدهم لا إجماع لهم بدونه، وإن حدثت قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، فأجمعوا على حكمها، أو اختلفوا، أو توقفوا، لم يعتد بقوله(36).

*  *  *

الهوامش:

(1)      رواه الترمذي - وغيره - في الصييام [730] من حديث حفصة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حديث حفصة حديث لانعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقدروي عن نافعٍ عن ابن عمر قوله. وهو أصح. وهكذا أيضاروي هذا الحديث عن الزهري موقوفاً، ولا نعلم أحداً رفعه إلا يحيى بن أيوب.

(2)      التقرير والتحبير 5/36.

(3)      التقريروالتحبير 5/36.

(4)      المستصفى 1/345.

(5)      كشف الأسرار للبخاري 6/110، وللاستزادة من التعريفات راجع: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 5/35؛ والمحصول لابن العربي 1/121؛ والمستصفى 1/345؛ والإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي2/349؛ وشرح مختصر الروضة 3/5.

(6)      كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 2/1060؛ والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده مادة ص ح ب .

(7)      راجع: نزهة النظر لابن حجر 1/31، وللمزيد من التعريفات راجع: التقريب والتيسير1/21؛ وألفية السيوطي1/41؛ ومقدمة ابن الصلاح 1/64.

(8)      تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/93. راجع أيضاً: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/92 ، (الشاملة)

(9)      مدخل الفقه العام للدكتورمحمد نجيب عوض المغربي ص 82 وما بعدها ط: بدون .

(10)    أصول الفقه لوهبة الزحيلي ص 488؛ وhttp: //ar. wikipedia. org/wiki/

(11)    التقرير والتحبيرلابن أمير الحاج 5/45.

(12)    إرشاد الفحول للشوكاني 1/175.

(13)    البحر المحيط 6/114؛ و إرشاد الفحول للشوكاني 1/175.

(14)    فتح الغفار بشرح المنار4/3 ؛ و المحصول لابن العربي 1/123؛ والبحر المحيط للزركشي 6/114؛ الإبهاج 2/353؛ شرح مختصر الروضة 3/47.

(15)    الجويني ، التلخيص في أصول الفقه3/24؛ والإبهاج2/353.

(16)    التخليص في أصول الفقه للجويني 3/24.

(17)    التلخيص في أصول الفقه 3/24؛ وأصول الفقه لوهبة الزحيلي ص 532

(18)    كشف الأسرار 6/146؛ الإحكام لابن حزم 064/5، مراتب الإجماع؛ وأصول الفقه لوهبة الزحيلي ص 532.

(19)    الأحكام لابن حزم 4/508.

(20)    كشف الأسرار 6/146.

(21)    البحر المحيط للزركشي 6/114.

(22)    التقرير والتحبير5/45؛والأحكام للآمدي 1/240؛ والمحصول للرازي4/177؛ و شرح مختصر الروضة 3/61.

(23)    التقرير والتحبير 5/45؛ و الأحكام للآمدي 1/240؛ و شرح مختصر الروضة 3/61.

(24)    الأحكام للآمدي 1/240؛ و المستصفى للغزالي 1/367.

(25)    الأحكام للآمدي 1/240؛ وشرح مختصر الروضة 3/61.

(26)    رواه الترمذي في السنن في العلم [2600] وقال: حديث حسن صحيح.

(27)    رواه الترمذي في السنن في المناقب [3595] وقال: حديث حسن صحيح .

(28)    راجع: تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبيرابن حجر أبوالفضل العسقلاني4/190.

(29)    رواه البخاري في الصحيح في فضائل الصحابة [3470].

(30)    الأحكام للآمدي 1/240؛ و المحصول للرازي4/177.

(31)    المحصول للرازي 4/180. .

(32)    الأحكام للآمدي 1/240.

(33)    الأحكام للآمدي 1/240.

(34)    الأحكام للآمدي 1/240.

(35)    الأحكام للآمدي 1/240.

(36)    شرح مختصر الروضة 3/61.

 

*  *  *



(1)        بحث مقدم للمؤتمر الدولي حول «الاجماع الوعي الجمعي فقهًا وروحًا وثقافة وسلوكاً» المنعقد في أنقرة ما بين 27-28/ أبريل 2013م = 15-16/جمادى الأخرى 1434هـ: السبت والأحد بمدينة اسطنبول بتركيا.

(*)        الأستاذ بدارالعلوم/ ديوبند، الهند

            Email: almubarakpuri@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1434 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2013م ، العدد : 11 ، السنة : 37